عرض مشاركة مفردة
  #8  
قديم 28/11/2008, 01:33 PM
الفارس الاخير
مُخلــص
 
آفـات الصحبة

آفـات الصحبة

بعد ذكر فضل المحبة في الله عز وجل والأخوة فيه ، ومن تمام النصيحة التحذير من آفات الصحبة ، ومنها :

1) كثرة الزيارات :
فمن آفات الصحبة كثرة الزيارات والمجالس التي هي مجالس مؤانسة وقضاء وطر ، أكثر منها مجالس ذكر وتذكير وتعاون على البر و التقوى ، فيكون في هذه المجالس ضياع الأوقات وذهاب المروءات وقد يجرّ فضول الكلام إلى ما يغضب الملك العلام ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه ، إلا قاموا على مثل جيفة حمار ، وكان عليهم حسرة يوم القيامة " ( قال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي والألباني في الصحيحة)

قال ابن القيم رحمه الله في " الفوائد" :
الاجتماع بالإخوان قسمان :

1) أحدهما اجتماع على مؤانسة الطبع وشغل الوقت ، فهذا مضرته أرجح من منفعته ، وأقل ما فيه أنه يفسد القلب ويضيّع الوقت
2) الثاني : الاجتماع بهم على أسباب النجاة والتواصي بالحق والتواصي بالصبر ، فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها ، ولكن فيه ثلاث آفات :
1- إحداها : تزيّن بعضهم لبعض
2- الثانية : الكلام والخلطة أكثر من الحاجة
3- أن يصير ذلك شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود
وبالجملة فالاجتماع والخلطة لقاح إما للنفس الأمارة ، وإما للقلب والنفس المطمئنة ، والنتيجة مستفادة من اللقاح فمن طاب لقاحه طابت ثمرته وهكذا الأرواح الطيبة لقاحها من الملك ، والخبيثة لقاحها من الشيطان ، وقد جعل الله سبحانه بحكمته الطيبات للطيبين ، والطيبين للطيبات ، وعكس ذلك

2) الإفراط في الحب والبغض :
ومن آفاتها الإفراط في الحب والبغض :
عن زيد بن أسلم عن أبيه قال : قال لي عمر بن الخطاب رضي الله عنه : يا أسلم لا يكن حبك كلفا ، ولا بغضك تلفا ، قلت : وكيف ذلك ؟ قال : إذا أحببت فلا تكلف كما يكلف الصبي بالشيء يحبه، وإذا أبغضت فلا تبغض بغضا تحب أن يتلف صاحبك ويهلك
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : أحبب حبيبك هونا ما ، عسى أن يكون بغيضك يوما ما ، وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما "

وقال أبوالأسود الدؤلي :

وأحبب إذا أحببت حبا مقاربا *** فإنك لا تدري متى أنت نازع
وأبغض إذا أبغضت غير مباين *** فإنك لا تدري متى أنت راجع


والمقصود الاقتصاد في الحب والبغض ، فإنّ الإسراف في الحب داع إلى التقصير ، و كذلك البغض ، فعسى أن يصير الحبيب بغيضا ، والبغيض حبيبا ، فلا تكن مسرفا في الحب فتندم ، ولا في البغض فتأسف ، لأن القلب يتقلب فيندم أويستحي

قال بعض الحكماء : ولا تكن في الإخاء مكثرا ، ثم تكون فيه مدبرا ، فيعرف سرفك في الإكثار ، بجفائك في الإدبار
ويخشى مع ذلك مع فرط المحبة أن يوافقه على باطل ، أويقصر معه في واجب النصيحة لله عزّ وجل ، وقد تنقلب هذه المحبة إلى بغض مفرط ، ويخشى عند ذلك إفشاء الأسرار ، و ترك العدل والإنصاف
وعن الحسن قال : أحبوا هونا وأبغضوا هونا ، فقد أفرط أقوام في حب أقوام فهلكوا ، وأفرط أقوام في بغض أقوام فهلكوا

3) مخالطة المحبة شيء من هوى النفس :
ومن آفاتها أن يخالط هذه المحبة التي هي لله عز وجل وفي الله عز وجل شيء من هوى النفس ، فبدلا من أن يحب في أخيه طاعته لله عز وجل والتزامه بالشرع ، يحبه لملاحة صورة أولمنفعة كإصلاح دنيا ، وبدلا من أن يرجوبهذه المحبة ما عند الله عز وجل ، ويتقرّب بها إليه ، يرجوبها استئناسا بشخصه ، أوتحقيقا لغرضه ، وهذه المحبة سرعان ما تزول بزوال سببها ، اوبشيء من الجفاء ، فإنه ما كان لله بقى ، كما يقال :

ما كان لله دام واتّصل *** وما كان لغير الله انقطع وانفصل

قال الله عز وجل : " الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوإلا المتقين" ( الزّخرف 17)

وقال حاكيا عن خليله أنه قال لقومه :" إنما اتّخذتم من دون الله أوثانا مودّة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين " ( العنكبوت 25)

فنسأل الله أن يجعل محبتنا لمن نحبه خالصة لوجهه الكريم ، ومقربة إليه وإلى داره دار السلام والنعيم المقيم ، وأن تكون عونا لنا على طاعته ، ودفعا لنا عن معصيته



4) الاستكثار من الإخوان :
ومن آفاتها الاستكثار من الإخوان ، حتى يعجز عن القيام بحقوقهم ومواساتهم عند حاجتهم واضطرارهم
قال في تنبيه المغترين : من أخلاق السلف رضي الله عنهم : أنهم لا يتخذون من الإخوان إلا من علموا من نفوسهم الوفاء بحقه ،فإنّ أخاك إذا لم توف بحقه كان فارغ القلب منك

وقال ابن حزم رحمه الله في "مداواة النفوس" : ليس شيء من الفضائل أشبه بالرذائل من الاستكثار من الإخوان والأصدقاء ، فإنّ ذلك فضيلة تامة مركبة ، لأنهم لا يكتسبون إلا بالحلم والجود والصبر والوفاء والاستضلاع والمشاركة والعفة وحسن الدفاع وتعلم العلم وكل حال محمودة ، ولكن إذا حصلت عيوب الاستكثار منهم ، وصعوبة الحال في إرضائهم ، والغرر في مشاركتهم ، وما يلزمك من الحق لهم عند نكبة تعرض لهم ، فإن غدرت بهم أوأسلمتهم لُؤّمت وذممت ، وإن وفيت أضررت بنفسك ، وربما هلكت فيكون السرور بهم ، لا يفي بالحزن الممضّ من أجلهم " اه باختصار

وقال عمروبن العاص : كثرة الأصدقاء كثرة الغرماء
وقال ابن الرومي :

عدوّك من صديقك مستفاد *** فلا تستكثرنّ من الصحاب
فإن الداء أكثر ما تراه *** يكون من الطعام أوالشراب


5) كشف الستر :
ومن آفاتها : كشف الستر عن الدين والمروءة والأخلاق والفقر وسائر العورات ، فإنّ
الإنسان لا يخلوفي دينه ودنياه من عورات ، والأولى سترها ، كما مدح الله عزّ و جلّ المستترين فقال : " يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف " ( البقرة 273)

وقال الشاعر :

ولا عار إن زالت عن الحرّ نعمة *** ولكن عارا أن يزول التّجمّل

وعن الحسن قال : أردت الحجّ فسمع ثابت البناني بذلك ، وكان أيضا من أولياء الله فقال : بلغني أنك تريد الحجّ ، فأحببت أن أصحبك ، فقال له الحسن : ويحك ، دعنا نتعاشر بستر الله علينا ، إني أخاف أن نصطحب فيرى بعضنا من بعض ما نتماقت عليه

قال الشيخ /أحمد فريد : ويتأكد ذلك في حق من تصدى لوعظ الناس ، فلا يكثر من صحبتهم ومخالطتهم في فضول المباحات ، حتى ينتفعوا بوعظه ، ويتمتع بستر الله عليه ، مما يكره عليه الناس من ذنوبه وعيوبه ، نسأل الله العفووالعافية في الدنيا والآخرة

6) هذه الآفة خاصة بصحبة الأغنياء :
ومن آفات صحبة الأغنياء إزدراء نعمة الله عليه وتحريك الطمع والحرص في قلبه وقد لا يتيسّر له فلا ينال إلا الغم بذلك
إنّ من نظر إلى زهرة الحياة الدنيا وزينتها تحرّك حرصه ، وانبعث بقوة الحرص طمعه ، ولا يرى إلا الخيبة في أكثر الأحوال ، فيتأذى بذلك ، ومهما اعتزل لم يشاهد ، و إذا لم يشاهد لم يشته ولم يطمع ولذلك قال الله تعالى : " ولا تمدّن عينيك إلى ما متّعنا به أزواجا منهم " (طه 131)

وقال صلى الله عليه وسلم :" انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هوفوقكم ، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم " (رواه مسلم والبخاري بمعناه)

قال عون بن عبد الله : كنت أجالس الأغنياء ، فلم أزل مغموما ، كنت أرى ثوبا أحسن من ثوبي ، ودابة أفره من دابتي ، فجالست الفقراء فاسترحت

7) الاستئناس بالناس :
ومن آفات الصحبة : الاشتغال بالإخوان عن تفريغ القلب للفكر والاستئناس بالله عز وجل الذي هوأول مطلوب القلوب وأعظم سبب لسعادتها ونجاتها وقد قيل : الاستئناس بالناس من علامات الإفلاس
قال بعض الحكماء : إنما يستوحش الإنسان من نفسه لخلوذاته عن الفضيلة ، فيكثر حينئذ ملاقاة الناس ، ويطرد الوحشة عن نفسه بالكون معهم ، فإذا كانت ذاته فاضلة طلب الوحدة ، ليستعين بها على الفكرة ، ويستخرج العلم والحكمة.

تم بحمد الله ..
م.ق



من مواضيعي :
الرد باقتباس