عرض مشاركة مفردة
  #5  
قديم 28/11/2008, 01:24 PM
الفارس الاخير
مُخلــص
 
حقوق الأخوة ومستلزمات الصحبة والمحبة

حقوق الأخوة ومستلزمات الصحبة والمحبة

لكل مسلم على أخيه المسلم حقوقا ، وهذه الحقوق أوجبها عقد الإسلام ، وصارت لكل مسلم بهذا العقد حرمة ، لا يحل لأحد أن ينتهكها ، وقد أتت جملة من هذه الحقوق ، وبيان لهذه الحرمة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " حقّ المسلم على المسلم ستّ : إذا لقيته فسلّم عليه ، وإذا دعاك فأجبه ، وإذا استنصحك فانصح له ، وإذا عطس فحمد الله فشمته ، وإذا مرض فعده ، وإذا مات فاتبعه " (متفق عليه)
وفي بيان حرمة المسلم ، وما لا يجوز للمسلم أن يقع فيه مع سائر المسلمين قوله صلى الله عليه وسلم :" إياكم والظنّ فإنّ الظنّ أكذب الحديث ، ولا تحسّسوا ، ولا تجسّسوا ، ولا تنافسوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، وكونوا عباد الله إخوانا ، المسلم أخوالمسلم ، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره ، التقوى ههنا … ويشير إلى صدره ، بحسب امرئ من الشرّ أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام : دمه وعرضه وماله " (رواه الشيخان)
إنّ عقد الأخوة رابطة بين الشخصين كعقد النكاح بين الزوجين ، ويترتب على هذا العقد حقوق المال والبدن واللسان والقلب ، وبمراعاة هذه الحقوق تدوم المودة وتزداد الألفة ، ويدخل المتعاقدين في زمرة المتحابين في الله ، وينالان من الأجر و الثواب ما أسلفناه

1) حقوق الأخوة في المال :
- فمن حقوق المال الواجبة إنظاره إلى ميسرة إن كان غريما ، قال تعالى :" وإن كان ذوعسرة فنظرة إلى ميسرة" (البقرة 280) ، و قال صلى الله عليه وسلم :" من يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة" ( رواه مسلم وغيره)
- ومن حقوق الأخوة المواساة بالمال : وهي كما قال العلماء على ثلاث مراتب :
1) أدناها أن تقوم بحاجته من فضل مالك،فإذا سنحت له حاجة،وكان عندك فضل، أعطيته ابتداءً ولم تحوجه إلى السؤال،فإن أحوجته إلى السؤال،فهوغاية التقصير في حقّ الأخوة
2) الثانية: أن تنزله منزلة نفسك ، وترضى بمشاركته إياك في مالك
قال الحسن : كان أحدهم يشقّ إزاره بينه وبين أخيه ، وجاء رجل إلى أبي هريرة رضي الله عنه وقال : إني أريد أن أواخيك في الله ، فقال : أتدري ما حق الإخاء ؟ قال : عرّفني ، قال أن لا تكون أحقّ بدينارك ودرهمك مني ، قال : لم أبلغ هذه المنزلة بعد ، قال اذهب عني
وقال علي بن الحسين لرجل : هل يُدخل أحدكم يده في كمّ أخيه أوكيسه ، فيأخذ منه ما يريد بغير إذنه ؟ قال : لا ، قال : فلستم بإخوان
3) الثالثة : وهي العليا ، أن تؤثره على نفسك ، وتقدّم حاجته على حاجتك ، وهذه رتبة الصديقين ، ومنتهى درجات المحبين
قال ابن عمر رضي الله عنهما : أهدى لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة ، فقال : أخي فلان أحوج مني إليه ، فبعث به إليه ، فبعثه ذلك الإنسان إلى آخر ، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى رجع إلى الأول ، بعد أن تداوله سبعة
فكانت هذه المرتبة العليا من الإيثار ، هي مرتبة الصحابة الكرام رضي الله عنهم

عن حميد قال : سمعت أنسا رضي الله عنه قال : لما قدموا المدينة نزل المهاجرون على الأنصار ، فنزل عبد الرحمن بن عوف على سعد بن الربيع ، فقال : أقاسمك مالي ، وأنزل لك عن إحدى امرأتي ، قال : بارك الله لك في أهلك ومالك ، فآثره بما آثره به ، و كأنه قبله ثم آثره به

وقد مدحهم الله عزّ وجلّ بقوله : " ويؤثرون على أنفسهم ولوكان بهم خصاصة " ( الحشر٩

قال أبوسليمان الداراني : كان لي أخ بالعراق ، فكنت أجيئه في النوائب ، فأقول : أعطني من مالك شيئا ، فكان يلقي إليّ كيسه فآخذ منه ما أريد ، فجئته ذات يوم فقلت : أحتاج إلى شيء فقال : كم تريد ؟ فخرجت حلاوة إخائه من قلبي وقال آخر:إذا طلبت من أخيك مالا فقال: ماذا تصنع به؟ فقد ترك حقّ الإخاء .
فهذه مراتب المواساة بالمال ، فإن لم توافق نفسك رتبة من هذه الرتب مع أخيك فاعلم أنّ عقد الأخوة لم ينعقد بعد في الباطن ، وإنما الجاري بينكما مخالطة رسمية لا وقع لها في العقل والدين ، قال ميمون بن مهران : "من رضي من الإخوان بترك الأفضال ، فليؤاخ أهل القبور "

2) حقوق الأخوة في البدن :
ويقصد بها الإعانة بالنفس في قضاء الحاجات ، والقيام بها قبل السؤال ، وتقديمها على الحاجات الخاصة ، وهذه أيضا لها درجات كالمواساة بالمال
1) أدناها القيام بالحاجة عند السؤال والقدرة مع البشاشة والاستبشار وإظهار الفرح وقبول المنة :
قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ،ومن يسّر على معسّر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة ،و من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة ،والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه "

أرسل الحسن البصري جماعة من أصحابه في قضاء حاجة لأخ لهم ، وقال : مروا بثابت البناني فخذوه معكم ، فمروا بثابت فقال : أنا معتكف ، فرجعوا إلى الحسن فأخبروه فقال لهم : قولوا له يا أعمش أما علمت أن سعيك في حاجة أخيك خير لك من حجّة بعد حجة ، فرجعوا إلى ثابت فأخبروه ، فترك اعتكافه وخرج معهم

2) الدرجة الثانية : أن تكون حاجة أخيك مثل حاجتك :
كان بعض السلف يتفقّد عيال أخيه بعد موته أربعين سنة ، يقوم بحاجتهم ، ويتردّد كل يوم إليهم ويمونهم من ماله ، فكانوا لا يفقدون من أبيهم إلا عينه

3) أن تقدّم حاجة أخيك على حاجتك ، وتبادر إلى قضائها ولوتأخرت حاجتك
قضى ابن شبرمة لبعض إخوانه حاجة كبيرة ، فجاء بهدية ، قال : ماهذا؟ قال : لما أسديته إليّ ، قال : خذ مالك عافاك الله ، إذا سألت أخاك حاجة فلم يجهد نفسه في قضائها ، فتوضأ للصلاة وكبّر عليه أربع تكبيرات ، وعدّه من الموتى

وكان الحسن يقول:إخواننا أحبّ إلينا من أهلنا وأولادنا لأن أهلنا يذكروننا بالدنيا ، وإخواننا يذكرون بالآخرة . ويدخل في حق المسلم على أخيه المسلم زيارته له في الله عزّ وجلّ ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألا أخبركم برجالكم من أهل الجنة؟ النبي في الجنة ، والشهيد في الجنة ، والصديق في الجنة ، والرجل يزور أخاه في ناحية المصر في الجنة "

ومن الصور المشرقة للزيارة في الله عزّ وجلّ ، وما ينبغي أن تشتمل عليه من الأخلاق والآداب ، ما كان بين أبي عبيد القاسم بن سلام وأحمد بن حنبل رحمهما الله ، قال أبوعبيد : "زرت أحمد بن حنبل في بيته فأجلسني في صدر داره ، وجلس دوني ، فقلت : يا أبا عبد الله ، أليس يقال : صاحب البيت أحقّ بصدر بيته؟ فقال : نعم ، يقعد ويُقعِد من يريد ، قال : فقلت في نفسي : خذ إليك يا أبا عبيد فائدة ، قال : ثم قلت له : يا أبا عبد الله ، لوكنت آتيك على نحوما تستحقّ لأتيتك كلّ يوم ، فقال : لا تقل ، إن لي إخوانا لا ألقاهم إلا في كلّ سنة مرة ، أنا أوثق بمودّتهم ممن ألقى كل يوم ، قال : قلت : هذه أخرى يا أبا عبيد ، فلما أردت أن أقوم قام معي فقلت : لا تفعل يا أبا عبد الله ، فقال: قال الشعبي : من تمام زيارة الزائر أن تمشي معه إلى باب الدار ، وتأخذ بركابه قال : فقلت يا أبا عبيد هذه ثالثة ، قال : فمشى معي إلى باب الدار وأخذ بركابي

ومن هذه الصور المشرقة لزيارة السلف بعضهم لبعض وفرحهم بهذه اللقاءات الداعية لمزيد من الإيمان والحبّ في الله عزّ وجلّ ما رواه الخطيب البغدادي في "تاريخه" عن النقاش أنه قال : " بلغني أنّ بعض أصحاب محمد بن غالب أبي جعفر المقرئ جاءه في يوم وحلٍ وطين ، فقال له : متى أشكر هاتين الرجلين اللتين تعبتا إليّ، في مثل هذا اليوم لتكسباني في الثواب؟ثم قام بنفسه فاستسقى له الماء،وغسل رجليه "

3) حقوق الأخوة في اللسان :
وهي بالسكوت تارة وبالنطق أخرى
1) السكوت على المكاره :
1- لا يذكر عيوبه :
فمن حق الأخ على أخيه،أن يسكت عن ذكر عيوبه في غيبته وحضرته،بل يتجاهل عنه أما ذكر عيوبه ومساويه في غيبته فهومن الغيبة المحرمة ، وذلك حرام في حق كل مسلم ، ويزجرك عنه أمران بالإضافة إلى زجر الشرع : أحدهما : أن تطالع أحوال نفسك ، فإن وجدت فيها شيئا واحدا مذموما ، فهوِّن على نفسك ما تراه من أخيك ، وقدر أنه عاجز عن قهر نفسه في تلك الخصلة الواحدة ، كما أنت عاجز عن قهر نفسه في تلك الخصلة الواحدة ، كما أنت عاجز عما أنت مبتلى به ، والأمر الثاني : أنك تعلم أنك لوطلبت منزها عن كل عيب اعتزلت عن الخلق كافة ، ولم تجد من تصاحبه أصلا
كما قال النابغة الذبياني :

ولست بمستبق أخا لا تلُمُّه *** على شعث أيّ الرجال المهذّب

فما من أحد من الناس إلا وله محاسن ومساوئ ، فإذا غلبت المحاسن المساوئ فهو الغاية ، والمؤمن أبدا يحضر في نفسه محاسن أخيه لينبعث من قلبه التوقير والودّ و الاحترام ، وأما المنافق اللئيم فإنه أبدا يلاحظ المساوئ والعيوب
قال ابن المبارك : المؤمن يطلب المعاذير ، والمنافق يطلب العثرات
وقال الفضيل : الفتوة العفوعن زلات الإخوان

2- أن لا يفشي أسراره :
ومن ذلك أن يسكت عن إفشاء أسراره ولا إلى أخصّ أصدقائه ، ولوبعد القطيعة والوحشة ، فإن ذلك من لؤم الطبع وخبث النفس

قيل لبعض الأدباء : كيف حفظك للسر؟ قال : أنا قبره .
وأفشى بعضهم سرا إلى أخيه ثم قال له حفظت ، قال : بل نسيت .
وقالوا : قلوب الأحرار قبور الأسرار

كان أبوسعيد الثوري يقول : إذا أردت أن تؤاخي رجلا فأغضبه ثم دس عليه من يسأله عنك فإن قال خيرا وكتم سرا فاصحبه

3- أن لا يجادله ولا يماريه :
ومن ذلك أن يسكت عن مماراته وجداله :
قال بعض السلف : من لاحى الإخوان وماراهم ، قلّت مروءته ، وذهبت كرامته
وقال عبد الله بن الحسن: إياك ومماراة الرجال، إنك لن تعدم مكر حليم ، أومفاجأة لئيم
وبالجملة فلا باعث على المماراة إلا إظهار التميّز بمزيد العقل والفضل ، واحتقار المردود عليه بإظهار جهله وبالغ بعضهم في ترك المراء والجدال فقال : إذا قلت لأخيك قم ، فقال : إلى أين؟ فلا تصحبه ، بل ينبغي أن يقوم ولا يسأل
والمراء يفتن القلب وينبت الضغينة ويجفي القلب ويقسيه ويرقق الورع في المنطق و الفعل

عن أبي أمامة رضي الله عنه قال :" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من ترك المراء وهومبطل بنى له بيت في ربض الجنة ، ومن تركه وهومحقّ بنى له في وسطها ، ومن حسن خلقه بنى له في أعلاها" (رواه أبوداود وغيره)



قال خالد بن يزيد بن معاوية الأموي :"إذا كان الرجل مماريا لجوجا معجبا برأيه فقد تمت خسارته "

قال الحسن البصري :"إياكم والمراء ، فإنه ساعة جهل العالم ، وبها يبتغي الشيطان زلّته"

2) النطق بالمحاب :
وكما تقتضي الأخوة السكوت عن المكاره ، تقتضي أيضا النطق بالمحاب ، بل هوأخص بالأخوة ، لأن من قنع بالسكوت صحب أهل القبور
1- التودد باللسان :
فمن ذلك أن يتودد إليه بلسانه ، ويتفقده في الأحوال التي يحب أن يتفقد فيها ، وكذا جملة أحواله التي يسر بها ينبغي أن يظهر بلسانه مشاركته له في السرور بها ، فمعنى الأخوة المساهمة في السراء والضراء

2- إخباره بمحبته :
ومن ذلك أن يخبره بمحبته له : عن أنس بن مالك قال : مر رجل بالنبي صلى الله عليه وسلم وعنده ناس ، فقال رجل ممن عنده : إني لأحب هذا لله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :"أعلمته؟" قال : لا ، قال : " قم إليه فأعلمه " فقام إليه فأعلمه ، فقال : أحبّك الذي أحببتني له ثم قال ، ثم رجع فسأله النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم :"أنت مع من أحببت ، ولك ما احتسبت " (رواه أحمد والحاكم وصححه الذهبي)

وعن المقدام بن معدى كرب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه " (رواه أحمد وغيره)

وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإخبار ، لأن ذلك يوجب زيادة حب ، فإن عرف أنك تحبه أحبك بالطبع لا محالة ، فإذا عرفت أنه أيضا يحبك زاد حبك لا محالة ، فلا يزال الحب يتزايد من الجانبين ويتضاعف ، والتحابب بين المسلمين مطلوب في الشرع محبوب في الدين ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ، أفشوا السلام بينكم " ( رواه مسلم ، وقال النووي : قوله :" لا تؤمنوا حتى تحابوا " معناه لا يكمل إيمانكم ، ولا يصلح حالكم في الإيمان إلا بالتحاب "

3- دعوته بأحبّ الأسماء إليه :
ومن ذلك أن يدعوه بأحبّ أسمائه إليه في غيبته وحضوره ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ثلاث يصفين لك ودّ أخيك : أن تسلّم عليه إذا لقيته أولا ، وتوسّع له في المجلس ، وتدعوه بأحب الأسماء إليه

4- الثناء عليه :
ومن ذلك : أن تثني عليه بما تعرف من محاسن أحواله وآكد من ذلك أن تبلغه ثناء من أثنى عليه ، مع إظهار الفرح ، فإن إخفاء ذلك محض الحسد ، وذلك من غير كذب ولا إفراط ، فإن ذلك من أعظم الأسباب في جلب المحبة

5- الذّبّ عنه في غيبته :
وأعظم من ذلك تأثيرا في جلب المحبة ، الذبّ عنه في غيبته مهما قصد بسوء أوتعرّض لعرضه بكلام صريح ، أوتعريض ، فحق الأخوة التشمير في الحماية والنصرة وتبكيت المتعنت وتغليظ القول عليه ، والسكوت عن ذلك موغر للصدر ومنفر للقلب ، وتقصير في حق الأخوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المسلم أخوالمسلم ، لا يظلمه ولا يحرمه و لا يخذله " (رواه مسلم)

6- التعليم والنصيحة :
ومن ذلك التعليم والنصيحة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الدين النصيحة قالوا لمن يا رسول الله ، قال : " لله و لكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم " (رواه مسلم) ، وبخاصة إذا استنصح الأخ أخاه وجب عليه أن يخلص له النصيحة ، كما سلف في الحقوق العامة للمسلمين ، و ينبغي أن تكون النصيحة في سرّ لا يطلع عليه أحد فما كان على الملإ فهوتوبيخ و فضيحة ، وما كان في السر ، فهوشفقة ونصيحة
قال الشافعي رحمه الله : من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه ، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه وقال رحمه الله :

تعمّدني بنصحك في انفرادي *** وجنّبني النصيحة في الجماعة
فإنّ النصح بين الناس نوع *** من التوبيخ لا أرضى استماعه
وإن خالفتني وعصيت قولي *** فلا تجزع إذا لم تعط طاعة


وتتأكد النصيحة كذلك إذا تغيّر أخوك عما كان عليه من العمل الصالح

قال أبوالدرداء : إذا تغيّر أخوك ، وحال عما كان عليه ، فلا تدعه لأجل ذلك ، فإن أخاك يعوج مرة ويستقيم مرة ، وحكى عن أخوين من السلف انقلب أحدهما عن الاستقامة ، فقيل لأخيه : ألا تقطعه وتهجره؟ فقال: أحوج ما كان إليّ في هذا الوقت لما وقع في عثرته أن آخذ بيده ،وأتلطف له في المعاتبة، وأدعوله بالعود إلى ما كان عليه
والأخوة عقد ينزل منزلة القرابة ، فإذا انعقد تأكد الحق ووجب الوفاء بموجب العقد ، ومن الوفاء به أن لا يهمل أخاه أيام حاجته وفقره ، وفقر الدين أشدّ من فقر المال ، والأخوة عند النائبات وحوادث الزمان ، وهذا من أشدّ النوائب
والقريب ينبغي أن لا يهجر من أجل معصيته ، حتى يقام له بواجب النصيحة ، وذلك لأجل قرابته ، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في عشيرته : " فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون " ( الشعراء 216)
ولم يقل : إني برئ منكم ، مراعاة لحق القرابة ولحمة النسب ، ولهذا أشار أبو الدرداء لما قيل له : ألا تبغض أخاك وقد فعل كذا؟ فقال : إنما أبغض عمله وإلا فهو أخي
وكذا التفريق بين الأحباب من محاب الشيطان ، كما أن مقارفة العصيان من محابه ، فإذا حصل للشيطان أحد غرضيه ، فلا ينبغي أن يضاف إليه الثاني

7- الدعاء له في حياته وبعد مماته :
ومن ذلك الدعاء لأخيه في حياته وبعد مماته :
عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك : ولك بمثل (رواه مسلم)

قال النووي رحمه الله : في هذا فضل الدعاء لأخيه المسلم بظهر الغيب ، ولودعا لجماعة من المسلمين حصلت هذه الفضيلة ، ولودعا لجملة من المسلمين فالظاهر حصولها أيضا ، وكان بعض السلف إذا أراد أن يدعولنفسه يدعولأخيه المسلم بتلك الدعوة ، لأنها تستجاب ويحصل له مثلها ، جاء في تاريخ بغداد للخطيب البغدادي في ترجمة الطيب إسماعيل أبي حمدون –أحد القراء المشهورين – قال : كان لأبي حمدون صحيفة مكتوب فيها ثلاثمائة من أصدقائه وكان يدعولهم كل ليلة ، فتركهم ليلة فنام ، فقيل له في نومه يا أبا حمدون : لِمَ لَمْ تسرج مصابيحك الليلة ، قال : فقعد فأسرج ، وأخذ الصحيفة فدعا لواحد واحد حتى فرغ

4) حقوق الأخوة في القلب :
من حق المسلم على أخيه في الله عز وجل الوفاء والإخلاص في محبته وصحبته ، وعلامة ذلك أن تدوم المحبة ، وأن يجزع من الفراق ، ومن حقه أن تحسن به الظن ، وأن تحمل كلامـه وتصـرفاته على أطيب ما يكون ، ومن ذلك أن لا يكلف أخاه التواضع له ، والتفقد لأحواله ، والقيام بحقوقه

1) الوفاء والإخلاص :
ومعنى الوفاء الثبات على الحب وإدامته إلى الموت معه ، وبعد الموت مع أولاده وأصدقائه ، فإنّ الحبّ في الله إنما يراد به ما عند الله عزّ وجلّ ، فلا ينتهي بموت أخيه
قال بعضهم : قليل الوفاء بعد الوفاة ، خير من كثيره في حال الحياة ..
وقد جاء أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم عجوزا أدخلت عليه فقيل له في ذلك ، فقال :"إنها كانت تأتينا أيام خديجة ، وإنّ حسن العهد من الإيمان"(صححه الحاكم و الذهبي وحسنه الألباني في الضعيفة)
- ومن الوفاء للأخ مراعاة جميع أصدقائه وأقاربه والمتعلقين به
-ومن الوفاء: أن لا يتغيّر حاله مع أخيه ، وإن ارتفع شأنه واتّسعت ولايته وعظم جاهه
قال بعضهم :

إنّ الكرام إذا ما أيسروا ذكروا *** من كان يألفهم في المنزل الخشن

وأوصى بعض السلف ابنه فقال له : يا بنيّ لا تصحب من الناس ، إلا من إذا افتقرت إليه قرب منك ، وإذا استغنيت عنه لم يطمع فيك ، وإن علت مرتبته لم يرتفع عليك و مهما انقطع الوفاء بدوام المحبة ، شمت به الشيطان ، فإنه لا يحسد متعاونين على بر ،كما يحسد متواخيين في الله ومتحابين فيه ، فإنه يجهد نفسه لإفساد ما بينهما ، قال تعالى :" وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إنّ الشيطان ينزغ بينهم " ( الإسراء 53)

قال بعضهم : ما تواخى اثنان في الله فتفرّق بينهما ، إلا بذنب يرتكبه أحدهما
وكان بشر يقول : إذا قصر العبد في طاعة الله ، سلبه الله من يؤنسه ، وذلك لأنّ الإخوان مسلاة الهموم وعون على الدين
ولذلك قال ابن المبارك : ألذّ الأشياء مجالسة الإخوان ، والانقلاب إلى كفاية
ومن آثارالصدق والإخلاص وتمام الوفاء ، أن تكون شديد الجزع من المفارقة ، نفور الطبع عن أسبابها ، كما قيل :

وجدت مصيبات الزمان جميعها *** سوى فرقةِ الأحبابِ هيّنةَ الخَطْب

وأنشد ابن عُيينة هذا البيت وقال : لقد عهدت أقواما فارقتهم منذ ثلاثين سنة ، ما يخيّل إليّ أن حسرتهم ذهبت من قلبي
- ومن الوفاء أن لا يسمع بلاغات عن صديقه
- ومن الوفاء أن لا يصادق عدوصديقه : قال الشافعي رحمه الله : إذا أطاع صديقك عدوك ، فقد اشتركا في عداوتك

2) حسن الظنّ :
ومن حقوق الأخوة حسن الظنّ بأخيه :
قال الله تعالى"يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظنّ فإنّ بعض الظنّ إثم"(الحجرات 12)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إياكم والظنّ فإنّ الظنّ أكذب الحديث " ( رواه الشيخان) ، وإذا كان هذا مطلوب في المسلمين عامة ، فيتأكّد ذلك بين المتآخين في الله عزّ وجلّ ومن مناقب الإمام الشافعي ما قاله أحد تلامذته عنه الربيع بن سليمان قال : " دخلت على الشافعي وهومريض فقلت له :قوى الله ضعفك ، فقال : لوقوى ضعفي قتلني ، فقلت : والله ما أردت إلا الخير ، قال : أعلم أنك لوشتمتني لم ترد إلا الخير "
فينبغي أن يحمل كلام الإخوان على أحسن معانيه ، وأن لا يظن بالإخوان إلا خيرا ، فإن سوء الظن غيبة القلب

3) التواضع :
ومن حقوق الأخوة القلبية أن يتواضع لإخوانه ، ويسيء الظن بنفسه فإذا رآهم خيرا من نفسه يكون هوخيرا منهم
قال أبومعاوية الأسود : إخواني كلهم خير مني ، قيل وكيف ذلك؟ قال : كلهم يرى لي الفضل عليه ، ومن فضلني على نفسه فهوخير مني
ومهما رأى الفضل لنفسه فقد احتقر أخاه ، وهذا في عموم المسلمين مذموم ، قال صلى الله عليه وسلم : " بحسب امرئ من الشّرّ أن يحقر أخاه المسلم " (رواه الشيخان)

يتبع...
[bdr][/bdr]



من مواضيعي :
الرد باقتباس