الموضوع: خير صديق
عرض مشاركة مفردة
  #1  
قديم 12/02/2013, 12:12 AM
صورة لـ نقية كالغيوم
نقية كالغيوم
مُثــابر
 
خير صديق

لا يختلف اثنان في كون الكتب مفتاح العلوم ، ومنبع الثقافة والمعرفة ، فعن طريقها نستطيع أن نتعرّف على سالف العصور والأزمان ، ونعيش في كل الممالك والأقطار ، ونصاحب العلماء والأدباء والشعراء والعظماء ، ونقرأ قصص الأنبياء والرسل ، وكل ما من شأنه اكتساب الثقافة والمعرفة . إضافة إلى أن الكتب لا تعرف الفواصل الزمانية والمكانية ولا الحدود الجغرافية ، فمنها ننهل المعلومات والفوائد ،من كل عصر ، ونتجوّل في رياضها الخضراء ، ونشرب من أنهارها العذبة ، ونبحر في بحارها الساحرة ، وما تحتضنه من لآل ودرر ومحار . ويكفيها فخرا ، أنها خير جار ومعلم لنا ، وخير صديق ورفيق في وحشتنا ، وهي التي تحفظ سرنا ، وتُفيدنا ، وتجلو بعقولنا ، وتشحذ أذهاننا ، وتوّسع آفاقنا، وتقوي عزائمنا ، وتعطينا ولا تأخذ منا .
وقد قال كلثوم بن عمرو العتابي في ذلك :


لنا جلساء ما نمـــلّ حديثهم ألبـاء مـأمون غيبا ومشهدا
يفيدوننا من رأيهم علم من مضى وعقلا وتأديبا ورأيـا مسددا
بلا مؤنة تُخشى ولا سوء عشرة ولا نتقي منهم لسانا ولا يدا
فإن قلت مـوتى فلست بكاذب وإن قلت أحياء فلست مفندا


ولهذا ، فقد كانت للكتب مكانة عظيمة عند علمائنا المسلمين ، حيث إنها مائدتهم المفضلة التي ينهلون منها كل ما لذ وطاب ، ورفيقهم في الترحال والأسفار ، وأنيسهم في الخلوات ، وجليسهم المحبوب الذي لا يُمل .

وهناك الكثير من الروايات والقصص الدالة على مكانة الكتب في نفوسهم ومحبتهم إياها ، ومنها ما يلي :


قيل لابن المبارك : يا أبا عبد الرحمن ، لو خرجت فجلست مع أصحابك ، قال : إني إذا كنت في المنزل جالست أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – يعني النظر في الكتب . وقال شفيق بن إبراهيم البلخي : قلنا لابن المبارك : إذا صليت معنا لمَ لا تجلس معنا ؟ قال : أذهب فأجلس مع التابعين والصحابة . قلنا : فأين التابعون والصحابة ؟ قال : أذهب فأنظر في علمي فأدرك آثارهم وأعمالهم. ما أصنع معكم ؟ أنتم تجلسون تغتابون الناس (1) .

وكان الزهري – رحمه الله – قد جمع من الكتب شيئا عظيما ، وكان يلازمها ملازمة شديدة حتى إن زوجته قالت : والله إن هذه الكتب أشدّ عليّ من ثلاث ضرر (2) .

وأحدهم تجرّع غصص الألم والحزن ، وكثر بكاؤه واشتدّ نحيبه عندما باع كتبه بستين دينارا ، من أجل أن يطعم أطفاله الصغار ، ويسدّ جوعتهم ورمقهم ، ولولا ذلك لما باعها ، فعندما أخذها الذي اشتراها منه ، وبدأ يُقلّب صفحاتها ، وجد في الصفحة الأخيرة منها أبياتا شعرية مكتوبة باسم صاحبها ، يبين فيها معاناته وحزنه على فراق الكتب وبيعها ، حيث قال :


أنستُ بها عشرين حولا وبعتــها لقد طـال وجـدي بعدها وحنيني
وما كان ظني أنني سأبيعــــا ولو خلّدتني في السجون ديونــي
ولكن لضعف وافتقار وصبيــة صغار عليهم تستهل شجونـــــي
فقلت ولم أملك سوابــق عبرتي مقالة مكوي الفؤادي حـــزيــــــن
وقد تخرج الحاجات يا أم مـالك كرائم من رب بهنّ ظنيــــنـــــي


وما إن انتهى من قراءتها الذي اشتراها ، حتى بكى وتألم وتأثر من هذه الأبيات ، فما كان منه إلا أن رجع إلى صاحبها ، فرد الكتب إليه وترك له الدنانير .

ويقول ابن القيم – رحمه الله - : وأعرف مَن أصابه مرض من صداع وحمى ، وكان الكتاب عند رأسه ، فإذا وجد إفاقة قرأ فيه ، فإذا غُلب عليه وضعه ، فدخل عليه الطبيب يوما وهو كذلك فقال : إن هذا لا يحلّ لك … (3) .

وكانوا – رحمهم الله – يقرأون في جميع أحوالهم ، ويجلّون الكتب ويعرفون لها قدرها ومكانتها وأهميتها ، كما كانوا يهتمون بتغذية عقولهم أكثر من تغذية بطونهم ، وإنهم يُقدّمون الكتب وقراءتها على المال والجاه ، لأنهم قد علموا ، أن الشعوب التي تهتم بالكتب وقراءتها شعوب متطورة ، والغير مهتمة بالكتب وقراءتها متخلفة ، وذلك مهما كثرت الأموال ، وتعددت الأنساب والأحساب .

والرويات في هذا الشأن كثيرة جدا ، والتي إن دلّت فإنما تدل دلالة واضحة على مدى اهتمامهم بالكتب والحرص عليها وعلى والقراءة فيها ، وإنفاق الأموال الطائلة في تحصيلها وامتلاكها . فرحمهم الله رحمة واسعة ، وجعلنا من الذين يحذون حذوهم ، ويسلكون دربهم، ويقتفون آثارهم ، ويتشبهون بهم ، فقد قيل : إن التشبه بالكرام فلاح .

هذا ، وصلى الله على سيدنا محمد . والحمد لله رب العالمين .منقول


(1) تقييد العلم . ص : 126
(2) شذرات الذهب . 1/63
(3) روضة المحبين لابن القيم . ص 70




من مواضيعي :
الرد باقتباس